عبقرية اليوسي

 

للدكتور عباس الجراري

 

نشر دار الثقافة – الدار البيضاء – 1981.

 

 

 

التصديـر   المقدمــة

تصديـر

 

بسم الله الرحمان الرحيم

 

       يرجع اتصالي الأول باليوسي إلى فترة تبعد بنحو ثلاثين عاما, وبالتحديد إلى غشت 1949, موافق ذي القعدة 1368. كنت يومئذ طفلا في الحادية عشرة من عمري, أتأهب للالتحاق بالثانوي بعد أن اجتزت نهاية المرحلة الابتدائية؛ وكنت قد سافرت مع والدي حفظه الله رفقة أخي محمد إلى فاس وصفرو لقضاء جزء من عطلة صيف هذا العام في هاتين المدينتين وما في ضواحيهما من مصايف جميلة.

 

       وإذا كان السيد الوالد قد سجل هذه السفرة (1) على عادته في تدوين رحلاته. وقد رجعت بالفعل إلى ما كتب عنها, فإني أذكر أننا في صفرو نزلنا ضيوفا على القائد الحسن اليـوسي (2) الذي كان صديقا لوالدي؛ وأذكر جيدا ذلك الصباح الباكر الذي خرجنا فيه على متن سيارة ( جيب) كان يسوقها القائد, لزيارة ضريح اليوسي الواقع في قرية تبعد عن المدينة بنحو عشرين ليكو مترا. وهو يضم إلى جانب مدفنه قبور أبنائه عبد الله ومحمد ( فتحا) وعبد الكريم. أما ابنه الرابع العربي، فإنه مات بعيدا عن القرية. فلم يدفن جوار إخوته وأبيه.

 

       كان قوم غير قليلين ينتظروننا عند الوصول, في حين كان عدد من التلاميذ الصغار داخل الضريح يتلون القرآن في الألواح، وكان الكبار منهم ينظرون في متون فقهية ونحوية يستعدون بدراستها واستظهارها للحاق برفقاء لهم سبقوهم إلى حلقات القرويين. وكان في هؤلاء وأولئك بعض من حفدة الشيخ.

  

       وإذا كنت نسيت الكثير من جوانب هذه الزيارة, فإني لم أنس الحوار العلمي والتربوي الذي أجراه الوالد مع تلاميذ هذه (المدرسة) وفقهائها, وما كان يفعمه من فوائد وتوجيهات لم التقط يومئذ منها إلا القليل؛ كما لم أنس الفطور الشهي الذي قدم لنا في رحاب الزاوية اليوسية قبل أن نعود إلى المدينة.

 

       وقد ظلت عالقة بذهني على الخصوص معلومات سمعتها في هذه الجلسة عن اليوسي وثقافته ومؤلفاته ومواقفه وما اكتسب من مكانة فرض بها وجوده على عصره وعلى التاريخ.

 

       وأذكر أني حاولت بعد العودة إلى الرباط أن أنظر في كتاب " المحاضرات ", ولكني سرعان ما أرجعته إلى مكانه, ولم أعد إليه إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات لأقرأ فصولا منه كنت أجدها غير بعيدة في قالبها وأسلوبها وموضوعاتها عن المقالات التي تنشرها الصحف والمجلات.

* * *

 

       ثم تاقت نفسي بعد أن التحقت بالجامعة وأخذت أتدرج في مختلف مراحلها, إلى الاطلاع على تاريخ المغرب السياسي والفكري وما أنتج المغاربة قدامى ومحدثون في مختلف مجالات الإبداع. ولا أخفي أني كنت في هذه الفترة التي أفضت بي للتخصص في الأدب المغربي شغوفا باليوسي, كثير التأمل في حياته وكتاباته.

                         

       وعلى الرغم من أني شغلت بإنجاز دراساتي العليا بمباحث أخرى, فقد ظل اليوسي في طليعة الموضوعات التي أدرت عليها الدروس وحلقات البحث مع طلبتي في الجامعة, وخاصة طلاب السلك الثالث عند أول تأسيسه في فاس سنة 1970, إذ قررت عليهم كتاب " المحاضرات " في مادة النصوص. وأشهد أن التجاوب كان كبيرا وعميقا إلى حد أن معظم الذين نجحوا في امتحان السلك الثالث هذا العام رغبوا في أن يسجلوا تحت إشرافي رسائل في موضوعات تتصل باليوسي, ولكني لم أكن أرى أن تنجز دراسات في جوانب قتلت بحثا ومناقشة طوال سنة كاملة. ولم أوافق منها إلا على موضوع كان ينصب على جمع " رسائل" اليوسي والعناية بها تحقيقا ودراسة (3), وموضوع آخر يتعلق بأبي عبد الله محمد المرابط الدلائي(4). في حين وجهت الطلبة الآخرين نحو موضوعات مختلفة كانت في نظري تتسم بالجدة والبكارة والأولوية.

 

       وقد بدأت هذه الدراسات تعطي بعض الثمار, بما نوقش منها, وبما يضاف إليها سنة بعد أخرى من رسائل وأطروحات, خاصة بعد أن تأسست شعبة للغة العربية وآدابها في كلية الرباط، وعملنا جاهدين على إنشاء الدراسات المغربية بها في مختلف الأسلاك, على حد ما فعلنا من قبل في فاس.

* * *

 

       وإذا كانت صحبتي لليوسي قد فترت بعض الوقت, فإنها لم تلبث أن بعثت وأضرمت جذوتها حين وصلني في أوائل هذا العام خطاب من السيد وزير الدولة المكلف بالشؤون الثقافية يخبر بعزم الوزارة على إصدار عدد من مجلة " المناهل " خاص باليوسي, ويدعو إلى المساهمة فيه بالكتابة في بعض جوانب شخصيته.

 

       واستعرضت في ذهني شريط حياة الرجل وفكره, فبدا لي الشريط طويلا, وهو على طوله غني وخصب وجذاب, بما له من ملامح متعددة وخصوصيات متميزة تكشف لاشك عن عبقرية متفردة.ودام الاستعراض أياما كنت خلالها أفكر في الجانب الذي يتيح إبراز أهم سمات هذه العبقرية, وظهرت لي بعض الموضوعات, ثم استقر الرأي في النهاية على اثنين منها, لم أتردد في إنجازهما :

أحدهما  عن اليوسي من حيث هو رائد عصره ومجدده.

والآخر عن بيوببليوغرافيا اليوسي أو سيرته الببليوغرافية.

 

       وإذا لم يكن مناسبا أن أشارك في هذا العدد بموضوعين, على أهميتهما – في نظري على الأقل– فقد فضلت أن أنشر ثانيهما, لاعتقادي أن العمل الببليوغرافي ذو قيمة أساسية، من حيث أنه يكشف عن جوانب إنتاج اليوسي المتعددة ومدى اهتمام المؤرخين والدارسين به، ولاعتقادي كذلك أن الدراسات العربية عموما ما زالت تفتقر إلى مثل هذا العمل. كما نشرت في عدد تال من نفسي المجلة جزءا من البحث الأول, وهو المتعلق باليوسي بين الامتياح من الذات والانصهار في المجتمع.

 

       وإني إذ أقدم البحثين معا أشكل منهما قسمي هذا الكتاب عن " عبقرية اليوسي ", أعترف بأني أضفت مصادر أخرى إلى السيرة الببليوغرافية, بعضها كان موقوفا عندي. غير مكتمل لم أشأ إدراجه فيما نشرت. وبعضها لم أكن قد اطلعت عليه, دون أن أنسى ما نبهني إليه مشكورين إخوان لي من الباحثين المعتنين، فضلا عن الموضوعات التي زخر بها العدد الخاص من المناهل، أو التي صدرت في أعقابه.

 

       فعسى أن أكون وفقت في تناول اليوسي من خلال بعض جوانب عبقريته, وعسى بذلك أن أكون أعربت عن وفائي لرفقة لي معه تمتد إلى طور صباي, ولكنها على طولها تتميز بالتجاوب والانسجام.

       والله الموفق

 

                          الرابط 4 ذي الحجة 1399

                          موافق 26 أكتوبـر 1979

                                                                 عباس الجراري

ـــــــــــ

2)   رحلتي الصيفية ( مخطوطة لدى المؤلف).

هو الحسن بن حدو سعيد اليوسي. أحد كبار القواد في عهد الحماية, كان متصفا بالغيرة والشهامة والوطنية. وقد تولى في فجر الاستقلال وزارة الداخلية ثم وزارة التاج. توفي بالرباط يوم الاثنين 20 يوليوز 1970 موافق 16 جمادى الأولى 1390, ونقل غد التاريخ إلى مسقط رأسه (  نقلا عن "وفيات" مخطوطة للسيد الوالد. وقد تحدث عنه في أماكن متفرقة من " رحلتي الصيفية " وهي مخطوطة. كما تحدث عنه في " هذه مذكراتي" القسم الثاني ص 135. وهي مرقونة).

 

1)   انظر القسم الثاني الخاص بسيرة اليوسي البيبليوغرافية.

2)   نفسه.

المقدمــة

      

       ليس بدعا – كما قد يظن – أن يتناول دارس معاصر أبا علي اليوسي من زاوية الريادة والتجديد, فقد تعاقبت مصادر كثيرة على اعتباره من المجددين, بدءا من الإفراني الذي حلاه في  ( الصفوة ) بـ " الشيخ الإمام علم الأعلام شيخ الإسلام, آخر علماء المغرب على الإطلاق, وممن وقع على علمه وصلاحه الإجماع والاتفاق " (1). قبل أن يورد نقلا عن بعض أشياخه أنه " هو المجدد على رأس هذه المائة لما اجتمع فيه من العلم والعمل بحيث صار إمام وقته وعابد زمانه " (2).

 

       وهو قول اعتمده محمد بن علي دنية الذي اعتبره في كتابه ( واسطة العقد النضيد في شرح حديث التجديد ) (3) مجدد المائة الحادية عشرة (4). كما اعتمده كثيرون, يكفي أن نذكر منهم محمدا الحجوي الذي قال عنه في ( الفكر السامي ) : " انتهت إليه الرياسة الكبرى في العلم في زمنه, وله شهرة ذائعة في المغرب والمشرق كشهرة تواليفه … ويعتبر مجددا على رأس المائة الحادية عشرة "(5).

 

       على أن اعتباره من المجددين تعدى نطاق المغرب إلى الخارج. على حد ما نقرأ في القصيد التي استجازه بها فقيه طرابلس محمد المكني إذ قال : (6).

 

أعالم أهل الأرض في كل ما قطر        وعلامة الدنيا جميعا بلا نكر

وقدوة أرباب الهداية والتقـــى    مجدد دين الله حقا بذا العصر

 

       بل إن اليوسي نفسه كان يدرك مكانته التجديدية, كما يتضح من هذا النص الذي يشرح فيه منهاجه العلمي ويدين المقلدين, معتبرا أنه " لم يكن أحد من علماء العقل وعقلاء العلماء يقيم للمقلد التابع كل ناعق وزنا أو يثبت له فضلا أو يعده عالما أو فقيها. وإنما كان يعد في نحو دواوين القصاص أو المؤرخين أو أصحاب الخرافات وأهل النوادر والحكايات حتى فشا الفساد وكثر الجهل والعناد فاختلط الفائق بالمائق والسائق بالسابق والمجلى باللطيم والأغر بالبهيم, وذلك عند ما عميت البصائر ورديت السرائر, وقد بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا. وقد كان ما أخبر به الصادق والمصدق صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من انحراف السيرة وفساد السريرة والتقليد على غير بصيرة, فإنه لا فرق بين مقلد ينقاد وبهيمة تقاد, فليكن في علمك أيها الناظر أن ما أودعنا موضوعنا هذا أو غيره من الموضوعات إلا ما اعتقدنا صحته تصورا وتصديقا عن ضرورة أو بينة وضحت وبصيرة انشرحت فلا يهمسن في وهمك طمع أن تعارضنا بكلام أو رأي لغيرنا ممن تقدم أو تأخر يخالف ما رسمناه وينقض ما أحكمناه, فننقاد إليك ونخضع بين يديك اللهم إلا أن تظهر بعد صحته وتتبين بينته فيكون الإنصاف إن شاء الله تعالى شيمتنا والرجوع إلى الحق طريقتنا. ولا تحسبن أيها الناظر أن الذين أسايرهم في مفاوز الفضل والفهم وأباريهم بقداح التحصيل في كل حكم وأسابقهم في مضمار الحكمة والعلم هم أهل زمانك. كلا, ولكن حجة الإسلام وفخر الدين وعضد الدين وسعد الدين وسائر المحصلين, على أني لا أقلدهم تحكيما ولا ألتزم شأوهم دخيلا ورسيما ولكن أذكر ما ذكروه إن صحت عندي صحته وتقوت لدي قوته, وإلا نبذته إلى وراء وخلفته بالعراء أو ذكرت ما فيه تصريحا أو تلويحا, وليس يحرمني من ذلك منصبي أو يحطني عن درجي قول جهول أو حسود ليس بعشك فادرجي ولا قول واعظ منتصح بل تزكوا أنفسكم لعـدم علمه أن تزكية النفس إنما سمي الثناء عليها واعتقاد براءتها من العيوب وإثباتها بين يدي ملك الملوك وعلام الغيوب " (7).

 

       وحتى الذين لم ينصوا من المؤرخين والدارسين على تجديده، أقروا له بذلك ضمنيا فيما حلوه به, كابن زاكور الذي وصفه بـ : " حبر الأحبار وجهينة الأخبار وزين القرى والأمصار العديم النظير في سائر الأقطار "(8), وكان أنشأ فيه عدة قصائد يكفي أن نذكر من إحداها هذه الأبيات : (9) 

       علامة الدنيــا بــلا          ثنيا ومصقعهـا المسـود

       بحر الشريعة والحقيـ                            ـيقة فاض فيها ليس يعهد

       بز الذين تقــدمـوا                     واستشهد الأخبار ترشـد

       فسميه البصري لــو                    رزق الحياة له تــردد

 

وابن زاكور بهذا الوصف تعدى العياشي الذي قال عنه بيته المشهور : (10)

من فاته الحسن البصري يصحبه      فليصحب الحسن اليوسي يكفيه

 

وقال عنه القادري أنه " الإمام الكبير المحقق الشهير أعجوبة الدهر ونادر العصر سيف السنة القائم عن وجوه أهل عصره بجزيل المنة " (11),  وأنه " الإمـام علامة الزمان ونادرة الأوان  " (12 ).

 

وعند الكردودي أنه كان : من أكابر الفحول وإماما في المعقول والمنقول. عالما ماهرا وبحـرا في العلوم والمعارف زاخرا محققا للدراية جامعا أشتات الرواية, له عارضة كبيرة في النقل والتحقيق " (13 ).

 

 

وتحدث عنه ابن الحاج فقال : " فاض بحر علومه وانتشر بدر فهومه حتى كان يعد من نظراء حجة الإسلام والفخر والعضد والسعد, على أنه والله قد نور بالعوارف والمعارف صدره وشاع بذلك في الأفاق صيته وذكره " (14).

 

أما الكتاني فوصفه بأنه " عالم المغرب ونادرته وصاعقته في سعة الملكة وفصاحة القلم واللسان مع الزعامة والإقدام والصدع بما يتراءى له وكثرة التصنيف على طريق بعد العهد بمثله، وهو الكلام المرسل الخالي عن النقل إلا ما لابد منه"(15).

 

وإذا كانت مثل هذه الأحكام صدرت في جملتها مطلقة, وإن اعتمدت على ما كان للرجل من مكانة فكرية تبلورت جلية واضحة في حياته وإنتاجه, فإن التعمق في دراستهما بالبحث الحديث لا يلبث أن يؤكد – وإن من زاوية مختلفة في الرؤية والتناول والهدف – أن اليوسي كان حقا رائد عصره ومجدده. وهذه قضية أعتقد أنها تأخذ أبعادا ثلاثة, سأحاول دراستها في الفصول المقبل, وهي :

       أولا : نمط متميز من الثقافة والشخصية

       ثانيا : بين الامتياح من الذات والانصهار في المجتمع

       ثالثا : مواقف جريئة وآراء صريحة.

ــــــــــ

1) ص 206 وانظر كذلك النزهة ص 284 ونقله الناصري في الاستقصا ( ج 7 ص 108 – 109 ) ومحمد بن مخلوف في شجرة النور الزكية (ص 328 ) وابن ابراهيم في الأعلام (ج3 ص 154 ). 

2)ص 208.

 3)هو الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابو داود والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا. ولفظه : " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.

4)ص 30.

5)الربع الرابع ص  117 – 118.

6) رحلة اليوسي ك 1418 – الورقة 78 و.

7)القول الفصل الورقة 220 ظ 221 و

8) نشر الأزاهر ص 88.

9) الديوان ك 357 ص 38 ورياض الورد ص 22 ( انظر قصائده الأخرى في الديوان ص 7 – 92 – 115 – 224 – 226 – 273 ) ومن الذين مدحوه كذلك محمد بن سعيد السوسي وغيره ( انظر المحاضرات ص 11 ).

10) المحاضرات ص 10.

11) النشر الكبير ك 2253 ج 2 ورقة 26 ظ.

12)التقاط الدرر 676 د الورقة 216 ظ.

13) الدر المنضد 1584 د الورقة 217 و.

14) رياض الورد 111 د ص 21.

15) فهرس الفهارس ج 2 ص 464.